ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :« مِنْ أهْلِهَا » صفة ل :« شَاهِدٌ »، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :« أعْرِضْ عَنْ هَذَا » أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال ﷺ في الحدّ :« انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ».
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :« اتْبَع القضاء المَبال » فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.