فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام؛ فقال :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام : أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم؛ لقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الأنتظام، وحسن الترتيب قال هاهنا :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾.
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم : إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك.
ومعنى : كونهم متفرقين، أي : شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وها من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ.
﴿ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾، « الوَاحِدُ » : لا ثاني لهُ، « القَهَّارُ » الغالبُ عل الكلِّ.
ثُمَّ عجز الأصنام، فقال :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾ أي : من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك.
فإن قيل : لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك؟.
فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً : الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى : أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار؟.
فإن قيل : كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله تعالى، حتَّى قيل : إنها خيرٌ أم اللهِ؟.
فالجوابُ : أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى : لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار؟.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي : ذواتُ المُسمَّيات، و « سَمِّتُمُوهَا » ك صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي : سَمَّيتُمُوها آلهة.
و « مَا أنْزَلَ » : صفةٌ ل : أسْمَاء «، و » مِنْ « : زائدةٌ في :» مِنْ سُلطَانٍ «، أي : حُجَّةٍ.
و »
إن الحُكْمُ « :» إنْ « نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء؛ كقوله :﴿ وَقَالَتِ اخْرُجْ ﴾ [ يوسف : ٣١ ]، ونحو؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما.

فصل


قال في الآية :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ ﴾، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ.
والجوابُ : أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ؛ وبيانه من وجهين :
الأول : أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ.


الصفحة التالية
Icon