﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ].
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ :« وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقول :» زَيْدٌ قاموا « وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا ».
قال شهاب الدِّين : قوله :« لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير » ممنوعٌ، بل إذا حذف مضافٌ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه، وعدمُه وهو الأكثر، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ [ الأعراف : ٤ ] أي : أهل قرية، ثم قال :﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه، وقوله :« لجازَ زيد قاموا » ليس نظيره، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ، بخلاف الآية.
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في « ومَلئِهم ». يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء، بالفرق بين ﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف.
وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنَّه قيل في ﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] إنَّه حقيقةٌ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه.
الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده، بل له حاشيةٌ، وعساكرُ، وجندٌ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون، وقومه، وملئِهِم، أي : ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً.
قال شهاب الدِّين : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم، قوله - تعالى - :﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي : والبرد؛ وقول الآخر :[ الطويل ]

٢٩٢٥- كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا
أي : ويدها.
قوله :« أن يفْتنَهُم » أي : يصرفهم عن دينهم، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من « فِرْعَون »، وهو بدلُ اشتمالٍ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة، كقولك :« أعْجَبني زيد علمُهُ ».
الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر، أي : خوف فتنته، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ﴾ [ البلد : ١٤، ١٥ ]، وقول الآخر :[ الطويل ]
٢٩٢٦- فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ
الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن، ونبيح :« يُفْتِنَهم » بضمِّ الياءِ من « أفتن » وقد تقدَّم ذلك [ النساء : ١٠١ ].
قوله :﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض ﴾ أي : مُتكبِّر، أو ظالمٌ، أو قاهر، و « فِي الأرض » متعلِّقٌ ب « عَالٍ » ؛ كقوله :[ الكامل ]


الصفحة التالية
Icon