وقرىء « اللاَّئِي » بالهمز، وكلاهما جمع ل :« الَّتي »، و « الخَطْبُ » : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ؛ وأنشد [ الطويل ]

٣١١٥ ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ
وهو في الأصل مصدر : خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام.

فصل ما في الآية من لطائف


أولها : أنَّ المعنى؛ قوله تعالى ﴿ فَاسْأَلْهُ ﴾ سئل الملك ﴿ مَا بَالُ النسوة ﴾ ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ.
وثانيها : أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة.
وثالثها : أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك، فاقتصر يوسف ﷺ على مجرَّد قوله :﴿ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين، والتفصيل.
ثم قال يوسف ﷺ ﴿ إنّ ربي بكيدهن عليم ﴾.
وفي المراد بقوله « إنَّ ربِّي » وجهان :
أحدهما : أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور.
والثاني : المراد به الملك، وجعله ربًّا؛ لكونه مربِّياً، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ.
واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً :
أحدها : أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه، وينسبنه إلى القبيح.
وثانيها : لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهمن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ.
وثالثها : أنه استخرجد منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك، فكان المراد منهم اللفظ ذلك.
ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ، وقال لهُّنَّ :« مَا خَطْبُكُنَّ » : ما شَأنُكُنَّ، وأمركنَّ « إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ »، وفيه وجهان :
الأول : أن قوله :« إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ »، وإن كان صيغة جمع، فالمراد منها الواحد؛ كقوله جلَّ ذكره :﴿ الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ].
والثاني : أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة، ثم هاهنا وجهان :
الأول : أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه.
والثاني : أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف؛ لأجل امرأة العزيز، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
وعند هذا السؤال ﴿ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾، وهذا كالتأكيد؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه، وهو قولهنَّ :﴿ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٣١ ].
وقوله « إذْ رَوادتنَّ »، هذا الظرف منصوبٌ ب « خَطْبُكُنَّ » ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى : ما فعلتُنَّ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ.


الصفحة التالية
Icon