وإمَّا من المعفولِ على معنى : وهو غائب عني خفي عن عيني.
« وأنَّ اللهَ » نسقٌ على « أنِّي »، أي : ليعلم الأمرينِ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري، كالمختار له.
وقال غيره : إنه من كلام امرأة العزيزِ، وهو الظَّاهرُ.
فإن قلنا : هو من كلام يوسف ﷺ فمتى قالهُ؟.
وروى عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم : أنَّ يوسف لما دخل على الملك، قال « ذلكَ »، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب.
قال ابنُ الخطيب :« والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك، سوء أدبٍ ».
فإن قيل : هذه الخيانة لو وقعت، كانت في حقِّ العزيزِ، فكيف قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ ؟.
فالجوابُ : قيل : المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ، فتكون الهاءُ في « أخُنْهُ » تعود على العزيز.
وقيل : إنَّه إذا خان وزيره، فقد خانه من بعض الوجوه.
وقيل : إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ ﴾، العزيزُ ﴿ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾.
ثم ختم الكلام بقوله :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾، ولعلَّ المراد منه : أني لو كنت خائناً، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ، وحيث خلصني منها، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه.
وإن قلنا : إن قوله :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ كلام امرأة العزيز، فالمعنى : أني ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ، والمكرِ، لا جرم افتضحْتُ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً، لاجرم أظهره الله، عز وعلا.
قال صاحبُ هذا القولِ : الي يدلُّ على صحَّتهِ : أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال : لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها :﴿ الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ﴾، ففي تلك الحالة قال يوسف :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن، ويذكر تلك الحكاية.
ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
قال القرطبي : وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز :« الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ » أي : أقررتُ بالصدقِ؛ ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ بالكذب عليه، ولم أذكره بسوءٍ، وهو غائبٌ، بل صدقتُ، وزجرت عنه الخيانة، ثم قالت :« ومَا أبرِّىءُ نَفسِي » ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع؛ ولهذا قالت :﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.