واعلم أن قوله :« أمِينٌ » كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ، والمناقبِ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم، أما القدرة؛ فلأن يحصل بها المكنةُ، وأما العلم؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي، وبما لا ينبغي، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ، وأما كونه أميناً، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح، والفسادِ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة، لا لداعي الشَّهوة، وكل من كان كذلك، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء.
ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف ﷺ قال في هذا المقام :﴿ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ قال المفسرون : لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه، قال له الملك : فما ترى أيُّها الصديقُ؟ فقال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشُّغل؟ فقال يوسف :﴿ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض ﴾، أي : على خزائن أرض مصر. أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق.
روى ابنُ عبَّاسٍ رضي البله عنهما عن رسول الله ﷺ أنَّهُ قال :« رحِمَ اللهُ أخي يوسف، لو لَمْ يقُل : اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً ».
قال ابن الخطيب :« وهذا من العجائب؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ، أخَّر الله ذلك المطلوب عه، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِن والتفويض إلى الله تعالى أولى.
فإن قيل : لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي ﷺ قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة :»
يَا عَبْدَ الرَّحمنِ : لا تَسْألِ الإمَارَةَ «
؟.
وأيضاً : فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ؟ وأيضاً : لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة؟ وأيضاً : لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ؟ وأيضاً : كيف مدح نفسه بقوله :»
إني حفيظ عليم « ؟ مع أنه تعالى قال :﴿ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ ﴾


الصفحة التالية