الرابع : أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان، والتقدير : لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم، وقد تقدم [ البقرة : ٢٥٨ ] الخلافُ في هذه المسألة، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح، فكما تقول :« آتيك صِيَاحَ الدِّيك » يجوز أن تقول : آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا :[ الطويل ]
٣١١٩ وقَالُوا لهَا :

لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا
وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ :[ الطويل ]
٣١٢٠ وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا
قال : تقديره : وقت ملاقاته الجمع، ووقت إهانة صغيرها.
قال أبو حيَّان :« فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية، ويبقى ﴿ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ على ظاهره من الإثبات ».
قال شهابُ الدِّين رحمه الله :« الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي ».
ومنع ابن الأنباري ذلك في « إنْ » وفي « مَا » أيضاً، قال :« فيجوزُ أن تقول : خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك، ولا يجوز : خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ، أوْ مَا يَصِيح الديك. فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير، و » أنْ « وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال، بخلاف الظَّرف، فإنه لا يشترط تنكيره، فلا يمتنع وقوعُ » أنْ « وما في حيزها موقعه ».

فصل


قال الواحيُّ : للمفرسين في الإحاطةِ قولان :
الأول : معناه الهلاكُ. قال مجاهد : إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكمون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول : أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه.
قال الزمخشري : قال تعالى :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] أي أصالبه ما أهلكه، وقال تعالى :﴿ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وأصله؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ، ودنا هلاكه؛ فقد أحيط به
والثاني : قال قتادة : ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين، لا تقدرون على الرجوع.
﴿ فلما ءاتوه موثقهم ﴾، أي : أعطوه عهدهم. قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه ﴿ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ أي : شهيدٌ بمعنى شاهدٍ.
وقيل : حافظاً، أي : أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به، جازاكم خير الجزاءِ، وإن غدرتم به، كافأكم بأعظم العقوبات.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ﴾ الآية، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً، وقوة، وامتداد قامة، وكانوا ولد رجلٍ واحد، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها؛ لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حقٌّ، ويدل عليه وجوه :
الأول : رُويَ عن رسول الله ﷺ أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول :


الصفحة التالية