وعن الأصمعيِّ رحمه الله : أنَّ عَيُوناً كان يقول : إذا رأت الشَّيْ يعجبني، وجدتُ حرارة تخرج من عيني.
وعنه : كان عندنا عيَّانان، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ، فقال : بالله، ما رأيت كاليوم مثله، فانصدع فلقتين، فصُبَّ، فمرَّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ، فتَطَايَرَ أرْبعاً.
وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال : إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول، قالوا : هذا آتيك، قال : وانقطاع ظهراهُ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبولُ بعدها أبداً، فما بال حتَّى مات.
وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه، فقال : أيتهُنَّ هذه، فواروا بأخرى عنها؛ فهلكتا جميعاً، المُورَى بها، والمُورَى عنها.
والمنقولاتُ في هذا كثيرة؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ، لا يمكن إنكارهُ.
قال القرطبيُّ : وإذا كان هذا معنى الآيةِ؛ فكيون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه :« ألاَ برَّكْتَ » فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ، ولا تعدوا إذا برَّك العَائِنُ، وأنها إنَّما تعدو؛ إذا لم يبرك، والتَّبْرِيكُ أن يقول :« تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ » وإذا أصاب العائن بعينه؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ، ويجبرُ على ذلك إن أبى؛ لأنَّ الأمر للوجوب، ولا سيِّما هنا، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به، ولا يضرهُ هو، ولا سيما غذا كان بسببه، كان الجاني عليه.
قال القرطبيُّ :« مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ ».
وقال بعضُ العلماءِ : يأَمره الإمامُ بلزوم بيته، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ، ويكفّ أذاه عن الناس.
وقيل : يُنفَى. والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه، بل قالوا : يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً، وأنه لا يقدحُ فيه، ولا يفسَّقُ به ومن قال : يحبس، ويؤمر بلزوم بيته؛ فذلك للاحتياط، ودفع ضرره.
قال الجبائيُّ : إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا، وتحدَّث النَّاسُ بهم، وبحسنهم، وكمالهم فقال :« لا تَدْخُلُوا » تلك المدينة « مِنْ بابِ واحدٍ » على ما أنتم عليه من العددِ، والهيئة، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس، أو قالك لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه، فحيبسهم.
وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ، والعرف كما بيَّنا، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه، فوجب المصيرُ إليه.
ونقل عن الحسنِ أنه قال : خاف عليهم العين، فقال :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ﴾ ثُمَّ رجع إلى علمه، فقال :﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾، وعرف أن العين ليست بشيء.


الصفحة التالية
Icon