وقال الجبائي : إنَّ « لا » مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل، تقديره : لئلاَّ يضلُّوا، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير :« كرَاهَةَ »، أي : كراهة أن يضلُّوا.
فصل
احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين :
أحدهما : أن اللام في « لِيضلُّوا » لام التَّعليل.
والثاني : قوله :﴿ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ فقال - تعالى - :﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ﴾ قال القاضي : لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه :
الأول : لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح، وإرادة الكفر قبيحة.
وثانيها : أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره؛ لأنَّ الطاعة : هي الإتيان بمراد الأمر، ولو كان كذلك، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم.
وثالثها : لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات، وفيه هدم الدِّين.
ورابعها : أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ]، وأن يقول :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٠ ]، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا، وهذا كالمناقضة، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر.
وخامسها : لا يجوز أن يقال : إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم؛ لأجل أن لا يؤمنوا، مع تشدده في إرادة الإيمان. وإذا ثبت هذا؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة، وذلك من وجوه :
الأول : أنَّ اللاَّم في « لِيُضِلُّوا » : لامُ العاقبة كما تقدَّم، ولما كانت عاقبة قوم فرعون، هو الضَّلال، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.
الثاني : أنَّ التقدير : لئلاَّ يضلوا، كقوله :﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، فحذف لدلالة المعقُول عليه، كقوله - تعالى - :﴿ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ]، أي : لئلاَّ تقُولُوا.
الثالث : أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار، أي : إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه، كأنَّه قال : أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك، ثم حذف حرف الاستفهام، كما في قوله :[ الكامل ]
٢٩٣١- كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ | غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ |
الرابع : أنَّ هذه لام الدُّعاء، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل، ويفتتح بها الكلام، فيقال : ليغفرُ الله للمؤمنين، وليُعذِّب الله الكافرين، والمعنى؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك.
الخامس : سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر، لا في نفس الحقيقة، والمعنى : أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى.