وقيل : إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه : سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ، والمراد من القرية : مصر، وقيل : قرية على باب مصر قال ابن عباس رضي الله عنه : هي قرية من قرى مصر، كانوا ارتحلوا منها.
وأما قوله :﴿ والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ أي القافلة التي كُنَّا فيها.
قال المفسِّرون : كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب.
قال ابنُ إسحاق : عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.
ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد، والتقرير قالوا :﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة، أم لم تنسب؛ فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء، فقد يقول بعده : وأنَّا صادق في ذلك، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل، والبينات.
فصل
قال القرطبي :« دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [ خلاف ] ما هو عليه، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه، حتَّى لا يبقى متكلِّم، وقد فعل هذا نبينا ﷺ بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد :» على رسلكما، إنّما هي صفيّة بن حييّ « ؛ فقالا : سبحان الله! وكبر علهيما، فقال رسول الله ﷺ :» إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا، أو قال : شَيْئاً « متفرقٌ عليه.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه، ففيه معنى العقوق، وقطيعة الرَّجمِ، وقلَّة الشَّفقةِ؟.
فالجواب : أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين.
وقيل : إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً، فيكتموه عن أبيه، والأول أصح.