وروي أنَّهُ قيل له : يا يعقوبك ما الذي أذهب بصرك، وقوَّص ظهرك؟ قال : أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه؛ فأوحى الله إليه : أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ ثم قال :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : أعلمُ من رحمته وأحسانه ما لا تعلمون، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً :
أحدها : أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له : يا مالك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال : لا يا نبيَّ الله، ثمَّ أشار إلى جانب مصر، وقال : اطلبهُ هاهنا.
وثانيها : أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ، وأنا وأنتم سنسجد له.
وثالثها : لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت؛ فلهذا بقي في القلب.
ورابعها : قال السديُّ : لما أخبره بنوه بسيرة الملك، وحاله في أقواله، وأفعاله؛ طمع أن يكون هو يوسف، وقال : لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا.
وخامسها : علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه، ولا ضربه؛ فغلب على [ ظنه ] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام، فعند ذلك قال :﴿ يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه ﴾ أي : استقصوا خبره بحواسِّكم، والتَّحَسُّسُك لطب الشَّيء بالحاسَّة.
قال ابنُ الأنباريِّ « يقالُ : تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ، ولا يقال : من فلان، وقيل : ههنا من يوسفح لأنه أقيم :» مِنْ « مقام :» عَنْ « قال : ولا يجوز أن يقال :» مِنْ « للتعبيض، والمعنى : تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة » مِنْ « لما فيها من الدلالة على التبعيض ».
والتحسُّسُ : يكون في الخيرِ والشَّر، وقيل : بالحاء في الخير، وبالجيم في الشَّر، ولذلك قال هاهنا :« فتَحَسَّسُوا »، وفي الحجرات :﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ [ الحجرات : ١٢ ].
وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله ﴾ وتقدَّم الخلاف في قوله :﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ ﴾.
وقرأ الأعرج :« ولا تَيْسُوا » وقرأ العامة :« رَوْحِ اللهِ » بالفتح، وهو رحمته وتنفيسه.
قال الأصمعيُّ رحمه الله « الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى، فيسكن إليه، وتركيب الرَّاء، والواو، والحاء يفيد الحركة، وهو الاهتزازُ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان، ويلتذُّ بوجوده فهو روح ».
قال ابن رضي الله عنهما :﴿ لا تيأسو من روح الله ﴾ أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله، وقيل : مِن فَرِجِِ اللهِ.