قوله :﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير ﴾ يقال : فَصَل فلانٌ عن فلانٍ فُصُولاً إذا خرج من عنده، و « فَصَلَ » كذا إذا أنفذ، و « فَصَلَ » يكون لازماً، ومتعديًّا، فإن كان لازماً فمصدره فصولاً، وإن كان متعدياً فمصدره فصلاً.
قال المفسرونك لما توجَّه العير من مصر إلى كنعان، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده :﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ قال مجاهدٌ : أصاب يعقوب ريحُ القميص من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه من مسيرة ثماني ليال.
وقال الحسنُ : كان بنيهما ثمانون فرسخاً، وقال مجاهد : هبَّ ريح يوسف فصفق القميص؛ ففاحت روائح الجنَّة في الدُّنيا، واتَّصلت بيعقوب ﷺ فعلم أنَّه ليس في الدنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص فمن ثمَّ قال :﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ وروي أنَّ ريح الصِّبا استأذنت ربَّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشيرُ.
واعلم أنَّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة، ولكن لمن منهما؟ والأقرب أنَّها ليعقوب حيثُ أخبروه عنه، ونسبوه إلى ما لا ينبغي؛ فظهر الأمر كما قال؛ فكانت معجزة لهُ.
قال أهل المعاني : إنَّ الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدَّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكانِ البعيدِ، ومنع من وصولِ خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدَّة ثمانين سنة، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سهلٍ فهو في زمنِ المحنةِ صعبٌ، وكلَّ صعبٍ في زمنِ الإقبال سهلٌ، ومعنى :﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ : أشم، وعبَّر عنه بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشَّمِّ.
قوله :﴿ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ التَّفنيدُ : الإفسادُ، يقال : فنَّدت فلاناً، أي : أفدستُ رأيه ورددته. قال الشاعر :[ البسيط ]

٣١٥٠ب يَا صَاحبيَّ دَعَا لَوْمِي وتَفْنِيدِي فَليْسَ مَا فَاتَ مِنْ بِمَرْدُودِ
ومنه : أفْنَدَ الدَّهرُ فلاناً؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٣١٥١ دَِ الدَّهْرُ يَفْعَلُ ما أرَاد فإنَّهُ إذَا كُلِّفَ الإفْنادَ بالنَّاسِ أفْنَدا
والفَنَدُ : الفسادُ؛ قال النابغة :[ البسيط ]
٣١٥٢ إلاَّ سُليْمان إذْ قَالَ الإلهُ لَهُ قُمْ فِي البَريِّيةِ فاحْدُدْهَا عنِ الفَندِ
والفِنْدُ : شمراخ :« يقالُ : شَيْخٌ مفنَّدٌ، ولا يقال : عجُوزٌ مُفنَّدة؛ لأنَّها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنَّد في كبرها وهو غريبٌ ».
وجواب « لَوْلاَ » الامتناعية محذوفٌ، تقديره : لصَدَّقْتُمونِي ويجوز أن يكون تقديره : لأخبرتكم.
قال ابنُ الأنباريّ :« أفْنَدَ الرَّجلُ : إذا انْحَرفَ، وتغيَّر عَقْلهُ، وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه ».
وعن الأصمعيِّ قال : إذا كثر كلامٌ الرَّجلِ من خرفٍ فهو الفَنَد والتَّفنيد.

فصل


قال المفسرون :« لَوْلاَ أن تُفنِّدُون » تسفهون، وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه : تَجْهلُون، وقال الضحاك : تَهْرَمُون، تقولون : شَيْخٌ كبيرٌ قد خرفَ، وذهب عقلهُ.


الصفحة التالية