قال ابن الأنباري « بدا » اسم موضع معروف، ياقل : بين شعيب عليه السلام وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ :[ الطويل ]

٣١٥٦ وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه : قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، يقال : بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا، كما يقال : غَارَ القوم غَوْراً، إذا أتوا الغُوْر، وكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب، وولده حضريِّين، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا.

فصل


اعلم أن قوله ﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ وهو قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ [ يوسف : ٤ ]، ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بي ﴾ أنعم عليَّ ﴿ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن ﴾ ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال :﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم ﴾ [ يوسف : ٩٢ ] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة، ولما خرج من السِّجن، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة.
وقال الواحديُّ :« النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع، ورغبة النَّفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين ».
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [ الله تعالى ] ومجيئهم من البدو إليه، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله، وتدبيره، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر.
ثم قال :﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان ﴾ أفسد وأغوى، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها.
احتجَّ الجبائيُّ، الكعبيُّ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى، أخبر عن يوسف ت ﷺ أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.
الجواب : أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ، كما أخبر الله عنه، فقال :﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي ﴾


الصفحة التالية
Icon