والثاني : أنه حال من « بَعْضِهَا »، أي : نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً، أي : وفيه الأكل، قاله أبو البقاءِ.
وفيه بعد جهة المعنى، والصناعة.

فصل


قوله :﴿ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ قال الأصمُّ : أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى رملة، وأخرى حصباء وحصى، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكونُ سوداء.
وبالجملة : فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع، والانخفاضِ، والطبعِ، والخاصيةِ أمر معلوم.
« وجَنَّاتٍ » بساتين :﴿ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ تقدَّم الكلام على الصنو، والصنوان، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد، « وغيْرُ صِنْوانٍ » هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها.
قال المفسريون : الصنوان : المجتمع، وغير الصنوان متفرق، ولا فرق في الصنوانِ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة.
﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ ﴾ والماء : جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ.
﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ في الثَّمر، والطَّعم، جاء في الحديث :« ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ » قال :« الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ ».
قال مجاهد : كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد.
وحكى الواحديُّ عن الزجاج : أنَّ الأكل : الثَّمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أنَّ الأكل : المهيّأ للأكل.
قال ابنُ الخطيب :« وهاذ أولى؛ لقوله تعالى في صفة الجنة :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات ».
قال الحسن : هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن، فسطحها؛ فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها، وشجرتها، ونباتها، وثمرها، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكلٌّ يصقى بماء واحد، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم ﷺ فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة، فترق قلوب قوم، فتخشع، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو.
قال الحسنُ : والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلاَّ قام من عنده بزيادة، أو نقصان، قال الله تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] ﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ الذي ذكر :﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

فصل


قال ابنُ الخطيب : المقصُودُ من هذه الآية : إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين :
الأول : أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة، وهي مع ذلك متجاورةٌ، فبعضها سبخةٌ، وبضعها طيِّبةٌ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ، وبعضها رمليةٌ، وتأثير الشمس، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
الثاني : أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ، ويكون تأثير الشمس فيها [ متساوياً ]، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون، والطَّعم، والطَّبيعة، والخاصية؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه، فإنها تبقى حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السَّواد، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة، ويستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدلُّ دلالة [ قطعية ] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة، وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾، ولهذا قال :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.


الصفحة التالية
Icon