ثم قال :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة : العلم ومعناه : أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين، وحال معينة بمشيئة الأزليَّة وإرادته السرمدية.
وعند حكماء الإسلام : أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة، وأودع فيها قوى، وخواصَّ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزيئة متعينة ومناسبات مخصوصة [ مقدرة ]، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ، وأحوالهم، وخواطرهم، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ.
قوله :« عِنْدَهُ » يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل « شَيْءٍ »، أو مرفوعة صفة ل « كُلُّ »، أو منصوبة ظرفاً لقوله :« بِمقْدارٍ »، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً.
قوله :﴿ عَالِمُ الغيب ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره :« الكَبيرُ المتعَالِ »، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي : هو عالمٌ.
وقرأ زيد بن عليى « عَالِمَ » نصمباً على المدحِ.
ووقف ابنُ كثير، وأبو عمرو في رواية على ياءِ « المُتعَالِ » وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهر في لسانهم، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم.
واستسهل سيبويه حذفها الفواصل، والقوافي، ولأنَّ « ألْ » تعاقب التنوين، فحذفت معها إجراء لها مجراها.
فصل
قال ابن عباس رضي اكلله عنه : يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه.
قال الواحديُّ :« فعلى هذا » الغَيْب « مصدر يرادُ به الغائب، والشهادة أراد بها الشَّاهد ».
واختلفوا في المراد بالغائب، والشَّاهد؛ فقيل : المراد بالغائب :[ المعدوم ]، وبالشَّاهد : الموجود. وقيل : الغائب مالا يعرفه الخلق.
واعلم أنَّ المعلومات قسمان : المعدمات، والموجودات.
والمعدومات منهنا معدوماتٌ يمتنع وجودها، ومعدومات لا يمتنع وجودها.
والموجودات قسمان : موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام، وخواص، والكل معلوم لله تعالى.
قال إمامُ الحرمين : الله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله :﴿ عَالِمُ الغيب والشهادة ﴾.
ثم قال :« الكَبِيرُ المُتعَالِ » وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة، و « المُتعَالِ » المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته، وصفاته.