فإن قيل :« إذ » ههنا بمعنى :« حين »، فيصير التقدير : إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً حين تفيضون فيه، وشهادة الله - تعالى - عبارة عن علمه؛ فيلزم منه أنَّه - تعالى - ما علم الأشياءَ إلاَّ عند وجودها، وذلك باطلٌ.
فالجواب : أنَّ هذا السُّؤال بناءً على أن شهادة الله عبارةٌ عن علمه، وهذا ممنوعٌ؛ فإنَّ الشهادة لا تكون إلاَّ عند المشهود عليه، أمَّا العلم فلا يمتنع تقدُّمه على الشَّيءِ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الرسول لو أخبرنا عن زيدٍ أنَّهُ يأكل غداً، كنا من قبل حُصُول تلك الحالةِ عالمين بها، ولا نُوصفُ بكوننا شاهدين بها.
قوله - تعالى - :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ ﴾ قرأ الكسائيُّ هنا، وفي سبأ [ سبأ ٣ ] :« يَعْزِب » بكسر الزَّاي، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع « عَزَبَ »، يقال : عَزَب يَعْزِب ويَعْزُب. أي : غَابَ حَتَّى خَفِي، ومنه الروض العازبُ؛ قال أبو تمام :[ الطويل ]
٢٩١٠- وقَلْقلَ نأيٌ مِنْ خُراسانَ جَأشهَا... فقُلْتُ : اطمئنِّي، أنْضَرُ الرَّوضِ عازبُهْ
وقيل للغائب عن أهله :« عازِب »، حتَّى قالوا لِمَنْ لا زوج له : عازب. وقال الرَّاغب :« العازِبُ : المُتباعدُ في طلب الكلأ، ويقال : رجل عزبٌ وامرأة عزبةٌ، وعزبَ عند حلمه، أي : غاب، وقوم مُعزَّبُون، أي : عَزبتْ عنهم إبلُهُم » وفي الحديث :« مَنْ قرأ القرآن في أربعين يوماً، فقد عزَّب »، أي : فقد بعُد عهدُه بالختمة، وقال قريباً منه الهرويُّ، فإنَّه قال :« أي : بعد عهده بما ابتدأ منه، وأبْطَأ في تلاوته، وفي حديث أم معبد :» والشَّاءُ عازبٌ حيال «.
قال : والعَازِبُ : البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى، والحَائِلُ : التي ضربها الفَحْلُ، فلمْ تَحْمل لِجُدوبَةِ السَّنة، وفي الحديث أيضاً :»
أصْبَحْنَا بأرضٍ عزوبَةٍ صَحْراءَ «، أي : بعيدةِ المرعى. ويقال للمالِ الغائب : عازِب، وللحاضر : عاهن، والمعنى في الآية : وما يَبْعُد، أو ما يَخْفَى، أو ما يغيبُ عن ربِّك.
و »
مِن مِّثْقَالِ « فاعل، و » مِنْ « : مزيدةٌ فيه، أي : ما يبعد عنه مثقالُ، والمثقالُ هنا : اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي : وزن ذرَّة، ومثقال الشَّيءِ : ما يُساويهِ في الثِّقل، والمعنى : ما يساوي ذرَّة، والذرُّ : صغارُ النَّملِ واحدها ذرَّة، وهي تكون خفيفة الوزن جدَّاً.
فإن قيل : لِمَ قدَّم الله ذكر الأرض هنا على ذكر السماء، مع أنَّهُ قال في سبأ :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ [ سبأ : ٣ ] ؟
فالجواب : حقُّ السَّماءِ أن تقدَّم على الأرض، إلاَّ أنه - تعالى - لمَّا ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل بذلك قوله : لا يعزُب عنه؛ ناسب أن تقدم الأرض على السَّماء في هذا الموضع.


الصفحة التالية
Icon