قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ ﴾ الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [ إبطال ] النبوة :
فالشهبة الأولى : قولهم :﴿ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٧ ] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى.
والشبهة الثانية : قولهم : الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال :﴿ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ [ الأنعام : ٨ ] وقالوا :﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة ﴾ [ الحجر : ٧ ].
الشهبة الثالثة : عابوا رسول الله ﷺ بكثرة الزوجات، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله تعالى بقوله ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ﴾ وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة.
والشبهة الرابعة : قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف، فأجاب الله تعالى عنه بقوله ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾.
الشبهة الخامس : أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [ وظهور النصرة له ولقومه، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ يعنى نزول العذاب على الكفار ] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ فقيل : حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً.
الشبهة السادسة : قالوا : لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة، كالتوارة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله ﴿ يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ ويمكن أيضاً أن يكون قوله :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة، ثم يبقيه مدة مخصوصة، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ ما ذكرنا.
ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال ﴿ يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ أي : أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة.


الصفحة التالية
Icon