وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر « العَزيز » على ذكر « الحَميد ».
قوله :﴿ الله الذي ﴾ قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وأما الرفع فعلى وجهين :
أحدهما : أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره : الله الذي له ما في السموات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم.
والثاني : أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي : هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال :« لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا ».
قال أبو حيان :« وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله » الإله « ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب ».
وقال ابن عصفور :« لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع » وهو قليل، وللعرب فيه وجهان :
أحدهما : أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين :
أحدهما : أن يعرب صفة متقدمة.
والثاني : أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته.
والثاني : من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب « العَزيزِ الحَميدِ » صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله :[ البسيط ]
٣١٨٩ والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا | رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ |
٣١٩٠ وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار... يريد : الطير العائذات، وبالعمر الطويل.
قال شهابُ الدِّين رحمه الله :« وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال ».
قال ابن الخطيب :« اللهُ » اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا :« اللهُ »، ثم وصفناه كقوله :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم ﴾ [ الحشر : ٢٢ ] الملكل القدُّوسُ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول : هو الرحمن الرحيم الله، فعلمنا أنَّ « اللهَ » اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات.
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن : أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله :﴿ هُوَ الله الخالق البارىء المصور ﴾ [ الحشر : ٢٤ ] فأمَّا أن تعكس فتقول : هو الخالق المصور البارىء الله ؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله :﴿ العزيز الحميد ﴾ مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب :
فقال أبو عمرو بن العلاء : القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير : صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [ والأرض ].