قوله تعالى :﴿ فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ ﴾ يجوز أن تكون الضمائر للكفار، أي : فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ، لقوله :﴿ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ ﴾ [ آل عمران : ١١٩ ] قاله أبو عباس، وابن مسعود، والقاضي.
قال القرطبيُّ : وهذا أصح الأقوال، قال الشاعر :[ الرجز ]
٣١٩٧ لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي | ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي |
وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي | عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ |
وقيل :« في » هنا بمعنى الباء. قال الفراء :« قد وجدنا من العرب من يجعل » في « موضع الباء، يقال : أدخلتُ بالجنَّة، أدخلت في الجنَّة » وأنشد :[ الطويل ]
٣١٩٨ وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ | ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ |
وقال أبو عبيد رحمه الله : هذا ضرب مثل يقوله العربُ : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به.
ورد عليه : بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ.
وقال أبو مسلم : المراد باليدِ : ما نطقت به الرُّسل من الحجج؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يداً، يقال لفلان عندي، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ الفتح : ١٠ ] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّرها لهم نعم وأياد، وأيضاً : العهود التي أتوابها مع القوم أيادي. وجمع اليد في القلة : أيْدِي، وفي الكثرة أيَادي.
وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه.
ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنَّ معنى قوله تعالى :﴿ فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي : سكتوا عن الجواب، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردَّ يدهُ في فيه، إذ لم يجبه، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال : إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا : إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا :« إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ »
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ قرأ طلحة :« تَدعُونَّا » بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية، والمعنى : في شكِّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه، والريبة : لقلق النفس، وألاّ [ تطمئن ] إلى الأمر.