الرابع : أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر، أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه، وذلك هو الصَّانع المختار.
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً.
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار.
وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار [ بوجود ] المعاد أحوط؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية، وهني منقضية فانينة، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان، والله أعلم.
فصل
لما استدلْ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم، والجود من وجهين :
الأول : قوله :﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾.
قال الزمخشريًُّ رحمه الله :« لو قال قائل : ما معنى التعبيض في قوله تعالى :﴿ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ » ؟.
ثم أجاب : فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار، كقوله تعالى ﴿ واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ نوح : ٣، ٤ ]، و ﴿ ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ] وقال في الخطاب للمؤمنين :﴿ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الصف : ١٠ ] إلى أن قال :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [ الصف : ١٢ ] قال : والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه.
ثم قال : وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد.
وقيل : أريد به : يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بنيهم وبين العباد من المظالم.
وقال الواحدي : قال أبو عبيدة :« مِنْ » زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا : ليست بزائدة، ففيها وجهان :
أحدهما : أنه ذكر البعض هنا، وأراد الجمع توسعاً.
والثاني : أن « مِنْ » ههنا للبدل، أي : لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت « مِنْ » لتضمن المغفرة معنى إبدالها م الذُّنوبِ.
وقال القاضي : ذكر الأصم أنَّ كلمة « مِنْ » ههنا تفيد التبعيض، أي : أنكم إذا [ تبتم ] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر، وأمَّا التي تكون من الصغائر، فلا حاجة إلى غفرانها؛ لأنها في أنفسها مغفورة.