[ النحل : ٤٠ ] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات، ولما كانت تجري على وجه الماء، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر.
ثم قال تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار ﴾، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات، وأيضاً : فماء البحر لا يصلحُ للشرب، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار.
ثم قال تعالى ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر ﴾ والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى ﴿ وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ] ﴿ وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ] ﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ]، وتأثيرهما في إزالة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة.
ثم قال :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار ﴾ ومنافعهما مذكورة في القرآن، كقوله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ﴾ [ النبأ : ١٠، ١١ ]، وقوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ القصص : ٧٣ ].
قال المتكلمون : تسخير الليل، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ، والأعراض لا تسخَّر.
ثم قال عزَّ وجلَّ :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ أي : أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع مالا يأتي على بعضها التَّعداد.
ثمَّ قال ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ قال الواحديُّ :« النِّعْةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر، يقال : أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً، ونِعْمةً، أقيم الاسم مقام الإنعام، كقوله : أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر ».
وقال غيره :« النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به ».
وخُتِمَت هذه الآية ب ﴿ إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ ﴾ ونظيرها في النحل ب ﴿ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النحل : ١٨ ] لأن في هذه تقدم قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] وبعده ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ [ أبراهيم : ٣٠ ] فجاء قوله ﴿ إِنَّ الإنسان ﴾ شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك.
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات، وبالغ فيها، وذكر قوله جلّ ذكره ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين.
وقال ابن الخطيب :« كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند أعطائها وهما : كوني غفوراً رحيماً، فكأنه تعالى يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم، أعلم عجزك، وقصورك، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء ».