فإن قيل : كيف آمنهُ من ذلك، ولم يزل خائفاً حتى هاجر، ثم بعد ذلك يخاف حالاً بعد حالٍ.
فالجواب : أنَّ الله وعدهُ بالنَّصر والظَّفر مطلقاً، والوقت ما كان معيَّناً، فهو في كُلِّ وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقتُ المعيَّنُ ذلك الوقت؛ فحينئذٍ يحصل الانكسارُ في هذا الوقت، وقوله :« قَوْلهُم » قيل : حذفت صفته؛ لفهم المعنى، إذا التقدير : ولا يحزنك قولهم الدَّال على تكذيبك، وحذف الصِّفة، وإبقاء الموصوف قليلٌ، بخلاف عكسه.
وقيل : بل هو عامٌّ أريد به الخاصُّ.
ثم ابتدأ فقال :﴿ إِنَّ العزة للَّهِ ﴾ العامَّةُ على كسر « إنَّ »، استئنافاً، وهو مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة.
وقيل : هو جوابُ سؤال مقدَّر؛ كأنَّ قائلاً قال : لِمَ لا يُحْزِنُه قولهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله :﴿ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً ﴾، ليس لهم منها شيءٌ، فكيف تبالي بقولهم؟
والوقف على قوله :« قولهم » ينبغي أن يُعتمد، ثم يبتدأ بقوله :« إنَّ العزَّة » وإن كان من المستحيل أن يتوهَّم أحَدٌ أنَّ هذا من مقولهم، إلاَّ من لا يعتبرُ بفهمه، وقرأ أبو حيوة « أنَّ العزَّة » بفتح « أنَّ » وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّها على حذف لام العلَّة، أي : لا يحزنك قولهم؛ لأجل أنَّ العزة لله جميعاً.
الثاني : أنَّ « إنَّ » وما في حيِّزها بدلٌ من « قولهم » كأنَّه قيل : ولا يحزُنك أنَّ العزَّة لله، وكيف يظهرُ هذا التَّوجيهُ، أو يجوز القولُ به، وكيف ينهى رسول الله ﷺ عن ذلك في المعنى، وهو لمْ يتعاطَ شيئاً من تلك الأسباب؟ وأيضاً؛ فمنْ أيِّ قبيلٍ الإبدالُ هذا؟ قال الزمخشريُّ :« ومنْ جعله بدلاً من » قولهم « ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكره من القراءة به ». يعني : أنَّ إنكارهُ للقراءة منكرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذكر من التَّعليل، وإنَّما المنكر هذا التَّخريجُ، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءة، ونسبُوها للغلط ولأكثر منه.
قال القاضي :« فتحُها شاذٌّ يقاربُ الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإعراب ».
وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح « إنَّ » في هذا الموضع وهو كفرٌ وغلوٌّ.
قال أبو حيَّان : وإنَّما قالا ذلك بناءً منهما على أنَّ « أنَّ » معمولةٌ ل « قولهم ».
قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل « قَوْلهُم » وهي واجبةُ الكسر بعد القول إذا حكيت به، فكيف يتوهَّم ذلك؟ وكما لا يتوهَّم هذا المعنى مع كسرها، لا يتوهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيحٌ.


الصفحة التالية
Icon