السابع : أنَّ العامل فيه مضمر، تقديره : أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي، ذكره أبُو البقاءِ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ. واعلم أنَّك إذا نصبت « بَادِيَ » على الظرف أو المصدر بما قبل « إلاَّ » احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، نصبت « بَادِيَ » على الظرف أوالمصدر بما قبل « إلاَّ » احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، وهو أنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يكون معمولاً لما قبلها، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو : مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ، أو مستثنى نحو : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و « بَادِي الرَّأي » ليس شيئاً من ذلك.
قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد « إلاَّ » لم يَجُزْ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب « إلاَّ » إلى مفعولين، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ، ألا ترى أنَّك لو قلت : مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز، ولذلك لو قلت : استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو « مع » لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف، فيجوز وصولُ الفعل.
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ.
والرَّأيُ : يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل.

فصل


اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - ﷺ - شُبُهَاتٍ :
الأولى : أنَّهُم قالوا : إنَّه بشرٌ مثلهم، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم وجب الطَّاعة لجميع العاملين.
الثانية : كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ، وأصحاب الصنائع الخسيسة؛ فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ].
الثالثة : قولهم :﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات.
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ، وتقدَّم الكلامُ على « الملأ » وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [ ٦٦ ].
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر.


الصفحة التالية
Icon