واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا : لأنَّ الإنسان إذا قال : لا أدَّعي كذا وكذا، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال :﴿ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً ﴾ وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم، ويحتقرونهم، فقال : لا أقولُ للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خَيْراً، أي : توفيقاً وإيماناً وأجراً ﴿ الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي.
وقوله :﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب ﴾ الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله :﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار، وأنَّ الزمخشري قال :« إنَّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب ﴾ معطوفٌ على ﴿ عِندِي خَزَآئِنُ الله ﴾ أي : لا أقول : عندي خزائنُ الله، ولا أقولُ : أنَا أعلمُ الغَيْبَ ».
قوله :« تَزْدَرِي » تفتعل من زَرَى يَزْرِي، أي : حَقَرَ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الزَّاي وهو مطرد، ويقالك « زَرَيْتُ عَليْهِ » إذا عبته، و « أزْرَيْتُ بِهِ » أي : قصَّرت به. وعائدُ الموصول محذوفٌ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم؛ قال الشاعر :[ الوافر ]

٢٩٦٤- تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
وقال الشارع أيضاً :[ الوافر ]
٢٩٦٥- يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير
واللاَّمُ في « للَّذينَ » للتَّعليل، أي : لأجْلِ الذين، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس « لن يُؤتيكُم » بالخطاب.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾.
قرأ ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - « جَدَلنا » كقوله :﴿ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٤ ].
ونقل أبو البقاء أنه قرىء « جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا » بغير ألفٍ فيهما، وقال :« هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ ».
وقوله :« بِمَا تَعِدُنَا » يجوزُ أن يكون « ما » بمعنى « الذي »، فالعائدُ محذوفٌ، أي : تَعدناه.
ويجوزُ أن تكون مصدرية، أي : بوعدك إيَّانا.
وقوله :« إن كنت » جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو « فَأتِنَا ».

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به، فقالوا :﴿ فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ ثُمَّ إنه - ﷺ - أجابهم بقوله :


الصفحة التالية
Icon