قوله تعالى :﴿ وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ ﴾ الجمهور على « أوحِيَ » مبنياً للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل ﴿ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ ﴾ أي : أوحِيَ إليه عدمُ غيمان بعض القوم.
وقرأ أبو البرهسم « أوْحَى » مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى -، « إنَّهُ » بكسر الهمزة وفيها وجهان :
أحدهما :- وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول.
والثاني :- وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول.
قوله « فَلاَ تَبْتَئِسْ » هو تفتعل من البُؤسِ، ومعناه الحزنُ في استكانة، ويقال : ابتأسَ فلانٌ، أي : بلغه ما يكرهه؛ قال :[ البسيط ]
٢٩٦٨- مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ | مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ |
٢٩٦٩- وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ | فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ |
فصل
دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً.
والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً، مع أنَّهم كانوا مأمورين به، وأيضاً : فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه، وقد أخبر أنَّهُ ﴿... لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ فينبغي أن يقال : إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين.
قوله تعالى :﴿ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾.
« بأعْينِنَا » حالٌ من فاعل « اصْنَع » أي : محفُوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ.
وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ. وقرأ طلحةُ بنُ مصرف « بأعْيُنَّا » مدغمة.
فصل
قوله تعالى :﴿ واصنع الفلك ﴾ الظَّاهر أنه أمر إيجاب؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ، وكان ذلك معجزة له.