قالوا : نعم، ما تعمدنا اساءتك، ولا أردنا إلا الخير، فكفَّ ابنه عن إتيانهم فقلت له : اتق الله، فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وإن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران لا يعرفون الله، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك. قال : يا سلمان، هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم ان اتبعت القوم يطلبني أبي في الخيل، وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم، وقد أعرف أن الحق في أيديهم. قلت : أنت أعلم، ثم لقيت أخي فعرضت عليه فقال : أنا مشتغل بنفسي وطلب المعيشة، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه فقالوا : يا سلمان، قد كنا نحذر، فكان ما رأيت، اتق الله واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وإن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله ولا يذكرونه، فلا يخدعنَّك أحد عن ذلك. قلت : ما أنا بمفارقكم.
قالوا : إنك لا تقدر على أن تكون معنا، نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل الشجر وما أصبنا، وأنت لا تستطيع ذلك. قال : قلت : لا أفارقكم. قالوا : أنت أعلم قد أعلمناك حالنا فإذا أبيت فاطلب أحداً يكون معك، واحمل معك شيئاً تأكله لا تستطيع ما نستطيع نحن. قال : ففعلت، فلقيت أخي فعرضت عليه فأبى، فأتيتهم فتحمَّلوا فكانوا يمشون وأمشي معهم، فرزقنا الله السلامة حتى أتينا الموصل، فأتينا بيعه بالموصل، فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا : أين كنتم؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون الله، بها عبّاد نيران فطردونا فقدمنا عليكم، فلما كان بعد قالوا : يا سلمان، إن ههنا قوماً في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم، فكن أنت ههنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين، وسترى منهم ما تحب، قلت : ما أنا بمفارقكم. قال : وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل دين البيعة : أقم معنا فإنه لا يعجزك شيء يسعنا. قلت : ما أنا بمفارقكم.
فخرجوا وأنا معهم، فأصبحنا بين جبال، فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال، يخرج رجل رجل من مكانه كأن الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا، فرحبوا بهم وحفوا وقالوا : أين كنتم لم نركم؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون اسم الله فيها عبدة النيران، وكنا نعبد الله فيها فطردونا، فقالوا : ما هذا الغلام؟ قال : فطفقوا يثنون عليَّ، وقالوا : صحبنا من تلك البلاد فلم نرَ منه إلا خيراً. قال : فوالله إنهم لكذا إذ طلع عليهم رجل من كهف رجل طويل، فجاء حتى سلم وجلس، فحف به أصحابي الذين كنت معهم وعظموه، وأحدقوا به فقال لهم : أين كنتم؟ فأخبروه فقال : وما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا عليَّ خيراً، وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أرَ مثل إعظامهم إياه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه، وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر مولد عيسى بن مريم، وأنه ولد بغير ذكر، فبعثه الله رسولاً، وأجرى على يديه إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة، وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، فكفر به قوم وآمن به قوم، وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه كان عبداً أنعم الله عليه، فشكر ذلك له ورضي عنه حتى قبضه الله، وهو يعظمهم ويقول : اتقوا الله والزموا ما جاء عيسى به، ولا تخالفوا فيخالف بكم، ثم قال : من أراد أن يأخذ من هذا شيئاً فليأخذ.


الصفحة التالية
Icon