فقال له آزر أنا أضُنُّ بديني من ذلك، فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه إن وقع عليها، ففر بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها ادر فجعلها في سرب، فكان يتعهدها بالطعام وما يصلحها، وإن الملك لما طال عليه الأمر قال : قول سحرة كذابين ارجعوا إلى بلدكم، فرجعوا وولد إبراهيم فكان في كل يوم يمر به كأنه جمعة والجمعة كالشهر من سرعة شبابه، ونسي الملك ذاك وكبر إبراهيم ولا يرى أن أحداً من الخلق غيره وغير أبيه وأمه، فقال أبو إبراهيم لأصحابه : إن لي ابناً وقد خبأته فتخافون عليه الملك ان أنا جئت به؟ قالوا : لا فائت به. فانطلق فأخرجه، فلما خرج الغلام من السرب نظر إلى الدواب والبهائم والخلق، فجعل يسأل أباه فيقول : ما هذا؟ فيخبره عن البعير أنه بعير، وعن البقرة أنها بقرة، وعن الفرس أنها فرس، وعن الشاة أنها شاة. فقال : ما لهؤلاء بد من أن يكون لهم رب.
وكان خروجه حين خرج من السرب بعد غروب الشمس، فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري، فقال : هذا ربي. فلم يلبث أن غاب قال : لا أحب رباً يغيب. قال ابن عباس : وخرج في آخر الشهر فلذلك لم ير القمر قبل الكوكب، فلما كان آخر الليل رأى القمر بازغاً قد طلع قال : هذا ربي. فلما أفل يقول غاب ﴿ قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾ فلما أصبح رأى الشمس بازغة ﴿ قال : هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ﴾ قال الله له : اسلم. قال : أسلمت لرب العالمين.
فجعل إبراهيم يدعو قومه وينذرهم، وكان أبوه يصنع الأصنام فيعطيها أولاده فيبيعونها، وكان يعطيه فينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه، فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم، ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي، ثم دعا أباه فقال ﴿ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ﴾ [ مريم : ٤٢ ] ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة فإذا هن في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي الآلهة وقالوا : إذا كان حين نرجع رجعنا وقد برحت الآلهة من طعامنا فأكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال : ألا تأكلون؟ فلما لم تجبه قال : ما لكم لا تنطقون؟
ثم إن إبراهيم أتى قومه فدعاهم، فجعل يدعو قومه وينذرهم، فحبسوه في بيت وجمعوا له الحطب حتى أن المرأة لتمرض فتقول : لئن عافاني الله لأجمعن لإبراهيم حطباً، فلما جمعوا له وأكثروا من الحطب، حتى إن كان الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها وحرها، فعمدوا إليه فرفعوه إلى رأس البنيان، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة : ربنا إبراهيم يحرق فيك.