وكان يقرض الشعر ويتمثل به، ويحكم على معانيه بعد التقرير له، فقصده العلماء من كل فج، وصنفوا له الكتب، كأبى على الفارسى الذى ألف له كتاب " الايضاح " وكتاب " التكملة " في النحو.
وارتحل إليه الشعراء كأبى الطيب المتنبي الذى ورد عليه بشيراز في جمادى الاولى سنة ٣٥٤، وأنشده قصيدته الهائية التى يقول فيها: وقد رأيت الملوك قاطبة * وسررت حتى رأيت مولاها ومن مناياهم براحته * يأمرها فيهم وينهاها أبا شجاع بفارس عضد الد * دولة فنا خسرو شهنشاها أساميا لم تزده معرفة * وإنما لذة ذكرناها وقد أفرد عضد الدولة في داره لاهل الخصوص والحكماء والفلاسفة، موضعا يقترب من مجلسه، فكانوا يجتمعون فيه للمفاوضة والمذاكرة، آمنين من السفهاء ورعاع العامة.
وكان مجلسه هذا يحتوى على شياطين المعتزلة، كأبى سعد: بشر بن الحسين قاضى قضاة شيراز، المتوفى سنة ٣٨٠، والاحدب رئيس المعتزلة ببغداد وأبى إسحق النصيبينى رئيسهم بالبصرة، وأبى الحسن: محمد بن شجاع.
وقد لا حظ عضد الدولة خلو مجلسه من أهل السنة، فقال: هذا ليس مجلس عامر بالعلماء، إلا إنى لا أرى فيه واحدا من أهل الاثبات والحديث، أما لهؤلاء المثبتة من ناصر؟ فقال القاضى بشر بن الحسين: ليس لهم ناصر، وإنما هم عامة، أصحاب وتقليد ورواية، يروون الخبر وضده ويعتقدونهما جميعا، لا يعرفون النظر والمعتزلة هم فرسان الجدل والمناظرة.
فقال عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الارض من ناصر! فانظر إلى موضع فيه مناظر يكتب فيه فيجلب.
فلما تبين القاضى العزم في حديثه، قال: سمعت أن بالبصرة شيخا وشابا، الشيخ يعرف
بأبى الحسن الباهلى، والشباب يعرف بابن الباقلانى.
فكبت عضد الدولة يومئذ إلى عامله بالبصرة ليبعثهما إليه، وأرسل إليهما خمسة آلاف درهم من الفضة، فلما وصل الكتاب إليهما قال الشيخ: هؤلاء الديلم قوم كفرة فسقة روافض، لا يحل
فمنهم من يستهين بها (١) ويجعل ذلك سبباً لتركه الإتيان بمثله.
ومنهم من يزعم أنه مفترى، فلذلك لا يأتي بمثله ومنهم من يزعم أنه دارس، وأنه أساطير الاولين.
وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه، لئلا يقع التطويل.
ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما لجاز على كله.
ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا لجاز ذلك في كله.
فثبت بما بيناه أنه تحداهم به، وأنهم لم يأتوا بمثله (٢).
وهذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه.
فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه.
والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، وضمن (٣) أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه، بأمر قريب، هو عادتهم في لسانهم، ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي.
فلما لم تحصل هناك معارضة منهم، علم أنهم عاجزون عنها.
يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول (٤) عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، لا سيما مع استعظامه ما بدهه بالمجئ من (٥) خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرف على حكم إرادته، والعدول عن إلفه وعادته، والانخراط، في سلك الاتباع بعد أن كان متبوعاً، والتشييع بعد

(١) ا، م: " به " (٢) س: " تحدى إليه... له بمثل " (٣) س: " وتضمن " (٤) ا: " لقول " (٥) ا: " مع " (*)


الصفحة التالية
Icon