الذى كتبت فيه، وهو لسان المثبتة.
فنظر الملك إلى الغلمان والحجاب فطاروا من بين يديه، ثم قال: اذكروا له مسألة، وكان في المجلس رئيس البغداديين من المعتزلة، وهو الاحدب.
وكان أفصح من عندهم وأعلمهم، وعدد كثير من معتزلة البصرة، أقدمهم أبو إسحاق النصيبينى، فقال الاحدب لبعض تلاميذه: سله، هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون، أو ليس له ذلك؟ - وكان غرضه تقبيح صورتنا عند الملك - فقلت له: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد ذلك، لان الله تعالى قال: (قل: كونوا حجارة أو حديدا) ونحن لا نقدر أن نكون حجارة ولا حديدا.
وقال تعالى: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) فطالبهم بما لا يعلمون.
وقال تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون).
وهذا كله أمر بما لا يقدر عليه الخلق.
وإن أردتم بالتكليف الذى نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه، فالكلام متناقض، وسؤالك فاسد، فلا تستحق جوابا، لانك قلت: تكليف، والتكليف: اقتضاء فعل ما فيه مشقة على المكلف، وما لا يطاق لا يفعل لا بمشقة ولا بغير مشقة.
فسكت السائل، وأخذ الكلام الاحدب فقال: أيها الرجل، أنت سئلت عن كلام مفهوم فطرحته
في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب، وجوابه إذا سئلت أن تقول: نعم أو لا.
فأحفظنى كلامه لما لم يوقرني توقير الشيوخ ولم يخاطبني بما يليق.
وقلت له: يا هذا أنت نائم ورجلاك في الماء: إنما طرحت السؤال في الاحتمالات، وقد بينت لك الوجوه المحتملة، فإن كان معك في المسألة كلام فهاته، وإلا تكلم في غيرها.
فقال الملك للاحدب: أيها الشيخ، قد بين الاحتمال، وليس لك أن تعيد عليه، ولا أن تغالطه، ثم إنى ما جمعتكم إلا للفائدة لا للمهاترة، ولما لا يليق بالعلماء.
ثم التفت إلى وقال لى: تكلم على المسألة.
فقلت: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده، كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة وما أشبه ذلك، وهذا سبيل الكافر: أنه لا يطيق الايمان، لا لانه عاجز عن الايمان، لكنه لا يطيقه لاشتغاله بضده الذى
بِهَذا في آبائِنَا الأَّوَّلينَ) (١) وقالوا: (يَا أَيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٢) وقالوا: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) وقالوا: (أَئِنَّا لَتَارِكُواْ آلهتنا لشاعر مجنون) (٤)، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ: إِنْ هّذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرونَ، فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً، وَقَالُواْ: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً / وَأَصِيلاُ) (٥)، (وَقَالَ الظَّالِمُونَ: إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً) (٦)، وقوله: (الَّذِينَ جَعَلُواْ القُرآنَ عِضِيَن) (٧).
إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور: من تعليل وتعذير، ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد (٨) الحث عليه.
وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب، وجاهدوه (٩) ونابذوه، وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والاتيان [بالملائكة] وغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه.
فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم - وذلك يدحض حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره - فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الامور التى ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة، ويتركون الأمر الخفيف؟ !
هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه (١٠) من العقلاء.
وإلى هذا [الموضع] قد استقصى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه.
ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من