المسلمين بالسعي في تحرير أسراهم المعذبين لدى الروم " وكان خليقا بالاستاذين الفاضلين ألا يكتبا هذا الكلام البيزنطى بعد نقلهما لقول ابن الاثير: إن عضد الدولة أرسل الباقلانى إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه.
وكان حسبهما أن يسجلا على أنفسهما عدم " معرفة ظروفها التاريخية "
فإن ذلك كان أسلم لهما، وكان يمنعهما من أن يتورطا فيما تورطا فيه، فليس صحيحا ما قالاه من أنه " ليس في التاريخ ما يدل على اتصال وثيق بين عضد الدولة وبين الروم من شأنه أن يكون داعيا لبعثات سياسية أو حربية ".
وليس صحيحا كذلك أن المؤرخين أشاروا إلى هذه السفارة باختصار، ودلوا على صبغتها الدينية الخالصة.
وليس صحيحا مرة ثالثة أن عضد الدولة قد قصد من بعثة الباقلانى إرضاء شعور المسلمين بالسعي في تحرير أسراهم.
أجل إن هذه الاقوال كلها ليست من الصحة والصواب في شئ، فقد بين المؤرخون لتلك الفترة من الزمان الاتصال الوثيق بين عضد الدولة وملك الروم، وأن البعثات السياسية قد تبو دلت بينهما عدة مرات منذ سنة ٣٦٩ حتى وفاة عضد الدولة في شوال سنة ٣٧٢، وأن وفد الروم الثالث أدرك وفاة عضد الدولة وحضر مجلس صمصام الدولة وتسلم منه الهدايا وتمم عقد المعاهدة.
ومجمل ما فصله المؤرخون في ذلك: أنه لما توفى أرمانوس ملك الروم وقام بعده ابناه باسيل وقسطنطين، افترقت كلمة الروم، وطمع كبار القواد في الاستئثار بالملك.
وكان ممن طمع في ذلك السقلاروس المعروف بورد الرومي، فجمع الجموع واستجاش بالمسلمين من الثغور وكاتب أبا تغلب بن حمدان وواصله وصاهره، وأخرج إليه الملكان عسكرا بعد عسكر فكسرهم، وجرت بين الفريقين معارك طاحنة، انتهت في يوم الاحد لثمان بقين من شعبان سنة ٣٦٨ هـ بانهزام السقلاروس، وقد توجه بعد هزيمته إلى ديار بكر، ونزل بظاهر ميافارقين، وأنفذ أخاه قسطنطين إلى عضد الدولة يستنصره على ملكى الروم، ويعده ببذل الطاعة وحمل الخراج إذا انتصر، فأحسن عضد الدولة استقباله، ووثق إليه بخطه ووعده بجميل إنجاده، وتطاول مقام قسطنطين لدى عضد الدولة، وانتهى خبره إلى الملكين الاخوين بقسطنطينية، فأنفذا إلى عضد
لكان ذلك بالغا (١) في إيجاب الحجة [عليه]، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه.
ومما يؤكد هذا، أن النبي ﷺ قد دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجا عليهم بالقرآن، لانا نعلم [ضرورة] أنه لم يلزمهم تصديقه تقليداً، ونعلم أن السابقين الاولين إلى الاسلام لم يقلدوه، إنما دخلوا على بصيرة.
ولم نعلمه قال لهم: إرجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الاتيان بمثله فقد ثبت حجتي.
بل لما رآهم يعلمون إعجازه، ألزمهم حكمه فقبلوه، وتابعوا الحق، وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا في صدقه، ولم يرتابوا في وجه دلالته.
فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ، كان إلى القبول منه / أسبق.
ومن اشتبه عليه وجه الاعجاز، أو خفى (٢) عليه بعض شروط المعجزات وأدلة النبوات - كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته
وترادفت عليه مواده.
وهذا فصل يجب أن يتمم القول فيه [من] بعد، فليس هذا بموضع له.
ويبين ما قلناه: أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله والانقياد له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه، ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه.
وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة.
فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم، وجرى مجراهم في (٣) توجه الحجة عليه.
وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان، من هذا الشأن، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة.
فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه.
وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما -[من] غور هذا الشأن - ما يعرف من استكمل معرفة

(١) س: " بلاغا ".
(٢) س: " واشتبه ".
(٣) ا: " من ".
(*)


الصفحة التالية
Icon