ويتلاقون متخادعين، ويصنفون متحاملين، جذ الله عروقهم، واستأصل شأفتهم، وأراح البلاد والعباد منهم، فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفاتهم على صغار الناس وكبارهم، ودب داؤهم، وعسر دواؤهم، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضعضعا، وساكنه متجعجعا ".
وقد يكون أبو حيان مدفوعا إلى تلك العداوة بتأثير العداوة بين الباقلانى وبين أستاذه أبى سليمان المنطقي من جهة، وبينه وبين أبى أحمد الاسفرايينى من جهة أخرى، وكلاهما له في نفس أبى حيان منزلة سامية، وإجلال بالغ.
ومهما يكن من أمر عداوة أبى حيان للباقلاني، وأيا كان مبعثها ومأتاها، فلا مراء في أنه قد ظلمه ظلما مبينا، إذ نسبه إلى طائفة الخرمية، وهو منها برئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
(٢٢) وثالثه الاثافي التى رمى بها الباقلانى، تلك الاقوال المنكرة التى قالها عنه ابن حزم الظاهرى (٣٨٤ - ٤٥٦) في كتاب: " الفصل في الملل والاهواء والنحل " فهو عنده: " كافر أصلع الكفر! مشرك يقدح في النبوات! ملحد خبيث المذهب ملعون، يلحد في أسماء الله، ويخالف القرآن ويكذب الله! نذل يوجب الشك في الله وفى صحة النبوة! مظلم الجهالة، من أهل الضلالة، ممرور فاسق أحمق، يكيد للاسلام ويسخف به! قد صدق فيه قول القائل: شهدت بأن ابن المعلم هازل * بأصحابه والباقلاني أهزل وما الجعل الملعون في ذاك دونه * وكلهم في الافك والكفر منزل " هذه بعض أقوال ابن حزم في الباقلانى، نقلتها بألفاظها كما أثبتها في مواضع مختلفة من كتابه.
ولو صدق بعض هذه الاقوال عليه لوجب على المسلمين البراءة منه، ونبذ كتبه، وعده في طليعة أعداء الاسلام، فكيف إذا صدقت كلها؟ ! ويجدر بنا - قبل أن نعرض للحكم عليها - أن نتبين: هل كان ابن حزم نزيها في حكمه، منصفا في قوله، أمينا في نقله، سليم الصدر من دواعى الهوى والعصبية؟ أم كان غير ذلك؟
وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي، ويقولون: إنه / متى اختلف الروي خرج عن أن يكون شعرا.
وهذه الطرق التى سلكوها في الجواب، معتمدة أو أكثرها.
ولو كان ذلك شعراً لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته، لان طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد، وأهله يتقاربون فيه، أو يضربون فيه بسهم.
* * * فإن قيل: في القرآن كلام موزون كوزن الشعر، وإن كان غير مقفّى، بل هو مزاوج متساوي الضروب، وذلك أحد (١) أقسام كلام العرب.
قيل: من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر، والسواكن والحركات.
فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً، كقوله: رب أخٍ كنتُ به مغتبطا * أشد كفى بعرا صحبته تمسكاً مني بالودّ ولا * أحسبُهُ يزهدُ في ذي أملِ (٢) تمسكاً مني بالودّ ولا * أحسَبُهُ يُغَيِّرُ العهدَ ولا يحُول عنه أبدا * فخاب فيه أملى وقد علمنا أن القرآن ليس من هذا القبيل، بل هذا قبيل غير ممدوح، / ولا مقصود من جملة الفصيح، وربما كان عندهم مستنكراً، بل أكثره على ذلك.
وكذلك (٣) ليس في القرآن من الموزون الذى وصفناه أو لا وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء، غير الاختلاف الواقع في التقفية.
ويبين (٤) ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بينا، وتتم فائدته بالخروج منه.
وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.

(١) س: " وذلك آخر " (٢) م، ا: " أحسبنى أزهد ".
(٣) م: " وليس ".
(٤) م: " وبين ".
(*)


الصفحة التالية
Icon