ثم ذكر آيات كثيرة، وبين أسرار إعجازها بيانا شافيا كافيا، على نحو رائع جميل، كقوله في ص ٢٩٤: " ما رأيك في قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيعَاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُم، يُذَبِّحُ أَبناءَهُم ويَسْتَحْييِ نِسَاءَهُم، إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين) ؟ هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وجامعة وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الامرين فما ظنك بما دونهما؟ ! لان النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على
هذا الجور.
ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.
ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنْ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ).
وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المستأنس ".
وقد استغرق كلامه على تلك الآيات من ص ٢٨١ - إلى ٣٢٢، ثم رجع إلى حديثه عن امرئ القيس وعمن عارض القرآن بشعره، ثم قال ص ٢٢٧: " فإن قال قائل: أجدك تحاملت على امرئ القيس، ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللين والشراسة، وبين اللطف والشكاسة، وبين التوحش والاستئناس، والتقارب والتباعد، ورأيت الكلام الأعدل أفضل، والنظام المستوثق أكمل، وأنت تجد البحتري يسبق في هذا الميدان، ويفوت الغاية في هذا الشأن، وأنت ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام، ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي، وكذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ، ودقيق المعنى، ما يتحير فيه أهل الفضل.. فكيف يعرف فضل ما سواه عليه؟ " ثم خلص من الاجابة عن هذا السؤال، وقال في ص ٣٣٣: " ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلم عليها، كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس، ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة، ويستخلص من سر المعرفة سريرة، ويعلم كيف تكون الموازنة، وكيف تقع المشابهة والمقاربة.
ونجعل تلك القصيدة التى نذكرها
وكقول الآخر (١) : أقول وقد شَدُّوا لساني بنسعةٍ: * أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا ومن هذا الباب (٢) في القرآن قوله: (فَمَا أَصْبَرهُمْ عَلَى النَّارِ) (٣) وكقوله: (وَثِيابَكَ فَطَهِّر) (٤).
قال الأصمعي: أراد البدن، قال:
وتقول العرب: " فدى لك ثوباي ".
يريد (٥) نفسه.
وأنشد: ألا أبلغ حفصٍ رَسُولا * فدى لك من أخي ثقةٍ إزارى (٦).
* * * ويرون من البديع أيضاً ما يسمونه " المطابقة "، وأكثرهم على أن معناها أن يذكر الشئ وضده، كالليل والنهار، والسواد والبياض، وإليه ذهب الخليل ابن أحمد والأصمعي، ومن المتأخرين عبد الله بن المعتز.
وذكر ابن المعتز من نظائره من المنثور ما قاله بعضهم (٧) :" أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع، فأدخلتنا في ضيق الضمان ".
ونظيره من القرآن: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (٨).
وقوله: (يُخْرِجُ الْحيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنِ الْحَيِّ) (٩).
وقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ) (١٠).
ومثله كثير جداً.
وإنما أراد: افعلوا بى خيرا ينطلق لساني بشكركم، فإن لم تفعلوا فلساني مشدود لا يقدر على مدحكم ويروى: معاشر تيم أطلقوا لى لسانيا " (٢) م: " هذا المعنى " (٣) سورة البقرة: ١٧٥ (٤) سورة المدثر: ٤ (٥) م: يريدون ".
(٦) البيت من قصيدة كتب بها إلى عمر بن الخطاب، أبو المنهال: بقيلة الاكبر الاشجعى، في شأن واليهم الغزل جعدة بن عبد الله السلمى، الذى كان يخرج الجوارى إلى سلع عند خروج أزواجهن إلى الغزو فيعقلهن ويقول، لا يمشى في العقال إلا الحصان.
فربما وقعت فتكشفت... راجع اللسان
٥ / ٧٥ والمؤتلف والمختلف للآمدي ص ٦٣ وتأويل مشكل القرآن ص ٢٠٥.
(٧) كتاب البديع ص ٧٤ (٨) سورة البقرة: ١٧٩ (٩) سورة الروم: ١٩ (١٠) سورة الحج: ٦١ (*)