ومن ذلك ما رواه الأعمش عن مجاهد: " وَالْأَرْضَ من ذَلِكَ دَحَاهَا١".
قال أبو الفتح: ليست هذه القراءة مخالفة المعنى لمعنى القراءة العامة: ﴿بَعْدَ ذَلِك﴾، لأنه ليس المعنى -والله أعلم- أن الأرض دحيت مع خلق السموات وفي وقته، وإنما اجتماعهما في الخلق، لا أن زمان الفعلين واحد. وهذا كقولك: فلان كريم، فيقول السامع: وهو مع ذلك شجاع، أي: قد اجتمع له الوصفان، وليس غرضه فيه ترتيب الزمان.
ومن ذلك قراءة عكرمة: "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى٢"، بالتاء مفتوحة.
قال أبو الفتح: إن شئت كانت التاء في "ترى" للجحيم، أي: لمن تراه النار. وإن شئت كانت خطايا للنبي "صلى الله عليه وسلم" أي: لمن ترى يا محمد، أي: للناس، فأشار إلى البعض، وغرضه جنسه وجميعه، كما قال لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد٣؟
فأشار إلى جنس الناس في هذا المعنى، ونحن نعلم أنه ليس جميعه مشاهدا حاضر الزمان.
فإن قيل: فإن النبي "صلى الله عليه وسلم" كان بحضرته المؤمنون الذين قد شهد لكثير منهم بالجنة، وشهد من حال الإيمان لهم بها، فكيف يجوز أن يقول الله له: النار لهؤلاء الذين تراهم؟.
قيل: يخصه ويخلصه محصول معناه، فهذا كقوله "تعالى": ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ٤﴾، وقوله: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل ٥﴾، وقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُم ٦﴾، كأنه عام لجميع من يقع البصر عليه، إغلاظا، وإرهابا. والمؤمنون مستثنون منه بما تقدمت الأدلة عليه، وله أشباه كثيرة.
ومن ذلك قراءة السلمي: "أَيَّان٨" بكسر الألف.
قال أبو الفتح: قد تقدم القول على ذلك٩".

١ سورة النازعات: ٣٠.
٢ سورة النازعات: ٣٦.
٣ انظر الصفحة ١٨٩ من الجزء الأول.
٤ سورة الإسراء: ٨٩.
٥ سورة هود: ٤٠.
٦ سورة ص: ٢٤.
٧ سورة سبأ: ١٣.
٨ سورة النازعات: ٤٢.
٩ انظر الصفحة ٢٦٨ من الجزء الأول، والصفحة ٢٨٨ من هذا الجزء.


الصفحة التالية
Icon