اعلم أن العرب تقارب بين الألفاظ والمعاني إذ كانت عليها أدلة، وبها محيطة. فمن ذلك ما نحن عليه، وهو نَحَتَ ينحِتُ، والتاء أخت الطاء، وقد قالوا: نَحَطَ ينحِطُ، إذا زفر في بكائه، فكأن ذلك الضغط الذي يصحَب الصوت ينال من آلة النفس، ويحتها ويسفنها١؛ فيكون كالنحت لما ينحت. لأنه تحيُّفٌ له وأخذ منه.
ونحو من ذلك [٨٩ظ] قولهم في تركيب ع ص ر: ع س ر: ع ز ر. فالعصر شدة تلحق المعصور.
والعسر شدة الخلق والتعزير للضرب، وذلك شدة لا محالة؛ فالشدة جامعة لأحرف الثلاثة. ومنه تركيب ج ب ر، ج ب ل، ج ب ن، المعنى الجامع لها اجتماع الأجزاء وتراجعها. من ذلك جبرت العظم، أي: وصلت ما تفرق من أجزائه، ومنه الجبل لاجتماع أجزائه، ومنه جبن الإنسان، أي: تراجع بعضه إلى بعض واجتمع. وإنما نبذت هنا طرفا من هذا الأمر تنبيها على أمثاله، حتى إذا هي اجتازت بك أحسست بها، ولم تطوك غير حافل بمعانيها وأوضاعها.
ومن ذلك قراءة مالك بن دينار والجحدري والأعمش: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَالِقُ٢".
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دليل على أن فعَل الخفيفة فيها معنى الكثرة كفعَّل الثقيلة، ألا ترى إلى قراءة الجماعة: "الخلاق"؟ وهذا للكثرة لا محالة. نعم، وقد قرن به العليم، وفعيل للكثرة. وكأن الخلاق الموضوع للكثرة أشبه بعليم؛ لأنه موضوع لها، فلولا أن في خلق معنى الكثرة لما عبر لخالق عن معنى خلاق. ومنه قوله: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْب٣﴾. ألا تراها في معنى غفار وقبال؟ وعليه ما أنشده أبو الحسن:

أنت الفداء لقبلة هدمتها ونقرتها بيديك كل منقر٤
فوضع "نقرت" موضع نفرت، وعليه جاء بالمصدرن فقال: كل منقر. وعلة هذا هو ما تعلم من وقع المصدر دالا على الجنس، وإذا أفضت بك الحال إلى عموم الجنسية فقد اغترقت٥ وتجاوزت حد الشياع والكثرة.
١ يريد يعركها ويهيجها، من سفنه: إذا قشره.
٢ سورة الحجر: ٨٦.
٣ سورة غافر: ٣
٤ انظر المحتسب: ١: ٨١.
٥ اغترق النفس "بفتح الفاء" استوعبه في الزفير، والمراد: بلغت غاية الكثرة، كما يستوعب الزافر غاية نفسه.


الصفحة التالية
Icon