سبق الإشارةُ إلى أنَّ التدبُّر يكون بعد فهم المعنى، لكن يحسن هنا أنْ أنبِّه إلى أنه قد لا يُفهم المعنى المراد، فتحتاج إلى البحث عنه. وتطلُّب المعنى يحتاجُ نَظَرًا وفِكْرًا، وهذا نوع من التدبر يكون سابقًا للفهم، والله أعلم.
وقد يكون عدم فهم الآية وقع من جهة جهل لغة أو سبب نزول، أو غيرها من الجهات وهذا يعني أنَّ التَّدبُّرَ يتعلَّقُ بالمعنى، وفي الغالب يكونُ هذا في فهم المتشابهِ النِّسبيِّ الذي قد يخفى على بعض الناس.
وقد يكون التًَّدبُّر باختيار أحد الأقوال المذكورة في الآية، والاختيار يحتاج إلى فِكْرٍ ونَظَرٍ يدلُّ على القول الصحيح المحتمل للآية.
وأمثلةِ هذا القسمِ كثيرةٌ، فمنها ما يقعُ من بحثِ آيةٍ مشكلةٍ، ومنها نقاشاتُ المفسِّرينَ التي يظهرُ فيها ترجيحُهم لوجهٍ من وجوهِ التَّفسيرِ، وغيرَها مما يحتاجُ إلى اختيارٍ من أجلِ البيانِ، وهذا ما لا تخلو منه كتب التفسير، ومن أمثلته:
قال الطبري (ت: ٣١٠): ((القول في تأويل قوله تعالى: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: ٢٨].
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بما: حدثني موسى بن هارون... عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) [البقرة: ٢٨]، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة.
... عن أبي الأحوض، عن عبدالله في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: ١١] قال: هي كالتي في البقرة: ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) [البقرة: ٢٨].


الصفحة التالية
Icon