وفي حجيّةِ بيان الصحابة للقرآن، فيما لو اختلفوا، قال الشاطبي: (وأما الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة، فهم أقْعَدُ في فَهْمِ القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييدُ بعض المطلَقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم ينقل عن أحدهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية) (٤).
ومعرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن؛ لأن الجهل بأسباب النزول مُوقِعٌ في الشّبَه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مَورِدَ الإجمال حتى يقع الاختلاف.
وإنما يقع ذلك؛ لأن معرفة أسباب النزول بمنزلة مقتضيات الأحوال التي يُفْهَمُ بها الخطاب، وإذا فات نقل بعض القرائن الدّالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيءٍ منه.
ومعرفة أسباب النزول رافعة لكل مشكلٍ في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى مقتضى الحال (٥).
إن ممّا يدلّ على ما سبق من الكلام: ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (أُتيَ برجلٍ من المهاجرين الأولين ـ وقد شرب الخمر ـ فأمر به عمر أن يُجلد، فقال: لِمَ تجلدني؟! بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟.
قال: فإن الله (تعالى) يقول في كتابه: ((لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا..)) [المائدة: ٩٣]، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله: بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر: ألا تَرُودّن عليه؟