وثالثها: قوله تعالى: ﴿وسخر﴾، أي: ذلل ﴿الشمس والقمر﴾ لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد ﴿كل﴾ منهما ﴿يجري﴾ في فلكه ﴿لأجل مسمى﴾، أي: إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله ﴿إذا الشمس كورت﴾ (التكوير، ١)، ﴿وإذا النجوم انكدرت﴾ (التكوير، ٢)، ﴿وإذا السماء انشقت﴾ (الإنشقاق، ١)، ﴿وإذا السماء انفطرت﴾ (التكوير، ١) وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً، فالمراد بقوله تعالى: ﴿كل يجري لأجلٍ مسمى﴾ هذا، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال: ﴿يدبر الأمر﴾، أي: يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل، وتكليف العباد، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، فلا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير عن تدبير، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات.
(٣/٣٤٥)
---