ثم استأنف قوله: ﴿سأستغفر لك ربي﴾ أي: المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام ﴿إنه كان بي حفياً﴾ أي: مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء: ﴿واغفر لأبي﴾ (الشعراء، ٨٦)
وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة، وثانيهما: أنه قال له انقياداً لأمر أبيه
﴿وأعتزلكم﴾ أي: جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله ﴿وما تدعون﴾ أي: تعبدون ﴿من دون الله﴾ الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر ﴿وأدعو﴾ أي: أعبد ﴿ربي﴾ وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه ﴿عسى أن لا أكون بدعاء ربي﴾ المنفرد بالإحسان إليّ ﴿شقياً﴾ أي: كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي:
*وما غربة الإنسان في شقة النوى
** ولكنها والله في عدم الشكل
*وإني غريب بين بست وأهلها
** وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال:
(٥/١٨٩)
---