﴿فلا تطع الكافرين﴾ فيما قصدوا من التنفير عن الدعاء بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة أو من القلق من صادع الإنذار ويخيلون لك أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك وقابل ذلك بالتشدد والتصبر ﴿وجاهدهم﴾ أي: بالدعاء ﴿به﴾ أي: القرآن الذي تقدم التحدث عنه في قوله تعالى: ولقد صرفناه، أو بترك طاعتهم المدلول عليه بقوله تعالى: فلا تطع أو بالسيف والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ﴿جهاداً كبيراً﴾ أي: جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة؛ لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيقوى أمرك ويعظم خطبك وتضعف شوكتهم وتنكسر سورتهم، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، ثم ذكر النوع الرابع بقوله تعالى:
﴿وهو الذي مرج البحرين﴾ أي: الماءين الواسعين الكبيرين بأن خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته تعالى يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ﴿هذا عذب﴾ أي: حلو سائغ ﴿فرات﴾ أي: شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض، وما كان في بطنها ﴿وهذا ملح﴾ أي: شديد الملوحة ﴿أجاج﴾ أي: مر محرق بملوحته ومرارته لا يصلح لسقي ولا شرب.
تنبيه: أشار تعالى بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الوصفين مع شدة المقاربة لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب جداً منه خرج الماء عذباً ﴿وجعل﴾ أي: الله تعالى ﴿بينهما برزخاً﴾ أي: حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما، ثم إنه تعالى أتم تقرير النعمة في منعهما من الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ بقوله تعالى: ﴿وحجراً محجوراً﴾ فكأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له ذلك كما قال تعالى: ﴿لا يبغيان﴾ (الرحمن، ٢٠)
(٦/٢٣٩)
---