ولما بين تعالى بقوله سبحانه: ﴿خلقكم من تراب﴾ كمال قدرته بين بقوله سبحانه ﴿وما تحمل من أنثى ولا تضع﴾ أي: حملاً ﴿إلا﴾ أي: مصحوباً ﴿بعلمه﴾ أي: في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه.
ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى: ﴿وما يعمر من معمر﴾ أي: وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه فمعناه: وما يعمر من أحد، وفي عود ضمير قوله تعالى ﴿ولا ينقص من عمره﴾ قولان: أحدهما: أنه يعود على معمر آخر؛ لأن المراد بقوله تعالى: ﴿من معمر﴾ الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمراً استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال: لفلان عندي درهم ونصفه أي: نصف درهم آخر.
والثاني: أنه يعود على المعمر نفسه لفظاً ومعنى، والمعنى: أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر:
*حياتك أنفاس تعد فكلما ** مضى نفس منك انتقصت به جزأ*
وقال الزمخشري: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق قال: وفيه تأويل آخر وهو: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص عن عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وإليه أشار رسول الله ﷺ في قوله: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار».
(٩/٨٩)
---