ولم يحك عن نبي من الأنبياء عليهم السلام ممن عاش منهم ألفاً وممن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة: «أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صَكّهُ ففقأ عينه فقال لربه: أرسلتني لعبد لا يريد الموت قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي: رب ثم ماذا؟ قال: الموت قال: فالآن» وكان موسى وقت قبضه ابن مائة وعشرين سنة ﴿أفلا يعقلون﴾ أي: أن القادر على ذلك عندهم قادر على البعث فيؤمنون، وقرأ نافع وابن ذكوان بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
ولما منح الله تعالى نبينا محمداً ﷺ غرائز من الفضائل مما عجز عنها الأولون والآخرون، وأتى بقرآن أعجز الأنس والجن، وعلوم وبركات فاقت القوى ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وكذباً وعدواناً قال تعالى:
﴿وما علمناه﴾ أي: نحن ﴿الشعر﴾ فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم، ورويِّ مقصود وقافية يلتزمها ويدير المعاني عليها ويحتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير وغيره في قصائدهم ﴿وما أنا من المتكلفين﴾ (ص: ٨٦)
لأن ذلك، وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه، ثم ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلاً: «ما خير ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم».
(٩/١٨٩)
---