ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السموات مع كونها أصغر من السموات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضاً لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور.
قال البقاعي: ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً للسكينة والبعد عن العجلة، وقوله تعالى: ﴿للسائلين﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق بسواء بمعنى مستويات للسائلين، ثانيها: أنه متعلق بقدر أي: قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين، ثالثها: أنه متعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها.
ولما كانت السموات أعظم من الأرض في ذاتها باتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظم الغاية فقال تعالى:
﴿ثم استوى﴾ أي: قصد قصداً، هو القصد منتهياً قصده ﴿إلى السماء وهي﴾ أي: والحال أنها ﴿دخان﴾ قال المفسرون: هذا الدخان بخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى: ﴿وكان عرشه على الماء﴾ (هود: ٧)
(١٠/١٥)
---


الصفحة التالية
Icon