ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى: ﴿وأكواب﴾ جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة عن أذى أو نحو ذلك: وقيل: هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل: إنه لا خرطوم له، وقيل: إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي:
*متكئاً تصفق أبوابه ** يطوف عليه العبد بالكوب*
ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال ﴿وفيها﴾ أي: الجنة ﴿ما تشتهي الأنفس﴾ من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا ﴿وتلذ الأعين﴾ أي: من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
روي أن رجلاً قال: «يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال: يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى: ﴿الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾ والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى: ﴿أهذا الذي بعث الله رسولاً﴾ وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى: ﴿وما عملته أيديهم﴾ وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس.
(١٠/١٦٨)
---