﴿رحمة﴾ وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله: ﴿منا﴾ إلى قوله تعالى ﴿من ربك﴾ أي: المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك فإن رسالاتهم كانت لب الأنوار في العبادات وتمهيد الشرائع في البلاد حتى استنارت القلوب واطمأنت النفوس بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق وقال ابن عباس: معنى رحمة من ربك أي: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل، وقال الزجاج: أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة ﴿إنه هو﴾ أي: وحده ﴿السميع العليم﴾ أي: أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أو لم يذكروها فإن ذكروها فإنه سميع وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها.
﴿رب﴾ أي: مالك ومنشئ ومدبر ﴿السموات﴾ أي: جميع الأجرام العالية ﴿والأرض وما بينهما﴾ مما تشاهدون من هذا الفضاء وما فيه من الهواء وغيره مما تعلمون من أكساب العباد وغيرها مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بخفض الباء الموحدة على البدل أو البيان أو النعت، والباقون برفعها على إضمار مبتدأ أو على أنه مبتدأ خبره لا إله إلا هو، والمقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة، فإن قيل: ما معنى الشرط الذي هو قوله تعالى ﴿إن كنتم موقنين﴾؟ أجيب: بأنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم: إن كنتم يا أهل مكة موقنين بأنه تعالى رب السموات والأرض فأيقنوا بأن محمداً عبده ورسوله.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته أنتج ذلك قوله تعالى:
(١٠/١٨٦)
---