فإن قيل: لم جعل بعضه متشابهاً وهلا كان كله محكماً؟ أجيب: بأن في المتشابه من الإبتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله.
فإن قيل: لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع آخر فقال ﴿الر كتاب أحكمت آياته﴾ (هود، ١) وجعل كله متشابهاً في موضع آخر فقال ﴿الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً﴾ (الزمر، ٢٣) أجيب: بأنه حيث جعل الكل محكماً فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وحيث جعل الكل متشابهاً فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
تنبيه: أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف ﴿فأمّا الذين في قلوبهم زيغ﴾ أي: ميل عن الحق كالمبتدعة ﴿فيتبعون ما تشابه منه﴾ أي: فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل ﴿ابتغاء الفتنة﴾ أي: طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه ﴿وابتغاء تأويله﴾ أي: وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه ﴿وما يعلم تأويله﴾ أي: الذي يجب أن يحمل عليه ﴿إلا الله والراسخون في العلم﴾ أي: الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع. وقال غيره: هو من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
(١/٤٦٩)
---


الصفحة التالية
Icon