ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك قوله ﴿فاعتبروا﴾ أي: احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها
ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمل بقوله تعالى: ﴿يا أولي الأبصار﴾ بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله ﷺ من إظهار دينه وإعزاز نبيه، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.
﴿ولولا أن كتب الله﴾ أي: فرض فرضاً حتماً الملك الذي له الأمر كله ﴿عليهم الجلاء﴾ أي: الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله ﷺ من ذلك الجلاء، وجعله على يده ﷺ فأجلاهم، فذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة
(١٢/٣٩)
---