ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى: ﴿وأما من أوتي كتابه﴾ أي: صحيفة حسابه ﴿بشماله فيقول﴾ أي: لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها ﴿يا ليتني﴾ تمنياً للمحال ﴿لم أوت﴾ أي: من أي مؤت ما. ﴿كتابيه﴾ أي: هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. ﴿ولم﴾ أي: ويا ليتني لم ﴿أدر ما﴾ حقيقة ﴿حسابيه﴾ من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا.
(١٣/١٢٢)
---
ثم يتمنى الموت ويقول: ﴿يا ليتها﴾ أي: الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة ﴿كانت القاضية﴾ أي: القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه: يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر:
*وشر من الموت الذي إن لقيته ** تمنيت منه الموت والموت أعظم*
والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله: ﴿ما أغنى عني ماليه﴾ يجوز أن يكون نفياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال، أي: أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى.
﴿هلك عني سلطانيه﴾ أي: ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرة الملقب بالعضد، إنه لما قال:
*عضد الدولة وابن ركنها ** ملك الأملاك غلاب القدر*


الصفحة التالية
Icon