فإن قيل: روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه ﴿يا أيها الناس﴾ فمكي و﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فمدني، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت بالمدينة؟ أجيب: بأنّ المراد بقولهم: السورة مكية أو مدنية أنّ غالبها ذلك والأولى أن يقال إنّ ذلك أكثري لا كلي وأن سورة البقرة والنساء والحجرات مدنيات باتفاق وقد قال تعالى في كل منها: ﴿يا أيها الناس﴾ وسورة الحج مكية سوى ما استثنى وفيها من غيره ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا﴾ ولا يختص ذلك الخطاب بالكفار ولا بأمرهم بالعبادة فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإيمان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفع الكفر والاشتغال بالعبادة ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال الله تعالى: ﴿ربكم﴾ تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية، وقوله تعالى: ﴿الذي خلقكم﴾ أي: أنشأكم ولم تكونوا شيئاً صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء، وأصله التقدير، يقال: خلق النعل، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس. وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه ﴿و﴾ خلق ﴿الذين من قبلكم﴾ وهذا متناول لكل ما يتقدّم الانسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله﴾ (الزخرف، ٨٧) ﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله﴾ (الزمر، ٣٨) أو