فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنات؟ أجيب: بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن، ولما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء وكان مآل ذلك كله الثبات والدوام وأنّ كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بالمساكن والمطاعم والمناكح فبشر بالأوّل بقوله تعالى: ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ وبالثاني بقوله تعالى: ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً﴾ الآية وبالثالث بقوله تعالى: ﴿ولهم فيها أزواج مطهرة﴾ ومثل ما أعدّ لهم في الآخرة بأحسن ما يستلذ منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور. ولما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى: ﴿وإن يسلبهم الذباب﴾ (الحج، ٧٣) وقوله تعالى: ﴿كمثل العنكبوت﴾ (العنكبوت، ٤١) قالت اليهود: ضرب المثل بذلك مما يستحيا منه لخسته فليس من عند الله تعالى فنزل ردّاً عليهم.
(١/٨٣)
---