وروى بسنده عن ابن سيرين١ قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" وروى بسنده عن ابن المبارك قال: "بيننا وبين القوم القوائم"، يعني الإسناد٢.
قال الإمام النووي: ومعنى هذا الكلام: إن جاء بإسناد صحيح قبلنا حديثه، وإلا تركناه، فجعل الحديث كالحيوان؛ لا يقوم بغير إسناد، كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم. إلى غير ذلك من الروايات التي تدل على ظهور الوضع بعد عصر الفتنة، وأن كبار أئمة الحديث والجرح والتعديل كانوا للحركة بالمرصاد.
عرض سريع لحركة الوضع:
في عصر التابعين ومن جاء بعدهم ضعفت الخاصية التي كانت في العصر الأول وهي: التثبت والتحري في الحديث، فكثرت الرواية وانتشر الحديث، وفشا الكذب على رسول الله ﷺ وبعض صحابته، وبعد أن كان الخلفاء الراشدون المهديون يدعون إلى التحوط، والتثبت في المرويات، أضحى الأمراء والخلفاء في شغل عن ذلك بالملك والسياسة.
وقد اشتدت الخصومة بين الأحزاب السياسية، وجاءت الدولة العباسية فتقرب إليها ضعفاء الإيمان بالاختلاق في فضائلها، والحط من شأن أعدائها، بل بلغ من بعضهم أنه كان يضع الأحاديث، أو يتزيد فيها، إرضاء لما يهوى بعض الخلفاء، وذلك كما حدث من أبي البختري الكذاب: فقد دخل وهو قاضٍ على الرشيد، وهو يطير الحمام، فقال له: هل تحفظ في هذا شيئا، فروى حديثا: "أن النبي كان يطير الحمام"، وقد أدرك الرشيد كذبه، وزجره، وقال: لولا أنك من قريش لعزلتك٣!! وكما حدث من
٢ صحيح مسلم بشرح النووي ج١ ص ٨٤، ٨٨.
٣ ويا ليته عزله لينزجر، ويرعوي غيره.